•     تتسم المجموعة القصصية " 32 فهرنهايت " بالتكثيف الصّوري واللّغوي الذي أسهمت تجربة الكاتب في توقيعات "أطياف صور" في إنضاجه والدفع به إلى حافة التماسك والانسجام الشّديد. ومن بين العديد من محرّكات القصّ اللافتة التي تستبطن هذه المجموعة، يبرز محرّك القصّ عن الحيوان، بوصفه موضوعًا وبوصفه بطلاً وبوصفه رمزًا. وإذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد إلى حقيقة أن 6 قصص من أصل 14 قصة قد حضر الحيوان فيها بقوة، صار بوسعنا القطع بمركزية هذا المحرّك في هذه المجموعة. ومع أن إغراءات الارتداد إلى استعادة كليلة ودمنة لابن المقفع وحيّ بين يقظان لابن طفيل وأيسوب للافانتين وطرزان لإدغار بوروس وماوغلي لروديارد كيلينغ، تبدو وجيهة ومبررة ها هنا، إلا أن المقاربات القصصية الحداثية التي نفّذها نذير الزعبي في هذه المجموعة، تؤكد رغبته الشديدة في أن يربط حكايات حيواناته بذاته وليس بأي ذات سابقة. أحسب أن تفرّد هذه المجموعة لا يقتصر على كونها غريبة أو وحيدة، بل يمتد ليشمل العديد من الملامح اللافتة للنظر فعلاً؛ فمن الملاحظ أن مملكة الحيوان لدى نذير الزعبي لم تنحصر في الكائنات البريّة فحسب –مثل الذئاب والغزلان- لكنها تتعدّاها إلى الكائنات البحرية مثل الأسماك، والكائنات الجويّة مثل الفراش. وقد استهدف خيال القاص الكائنات المفترِسة (بكسر الراء) مثل الدببة إلى جانب كائنات مفترَسة (بفتح الراء) مثل الغزلان. كما جمع نذير الزعبي في هذه المجموعة بين الكائنات المستألفة مثل القطط والكائنات غير المستألفة مثل الذئاب. ما الذي رمى إليه نذير الزعبي من كل هذا؟ هل هو يجرّب حظه في استعادة ذلك الإرث الطويل من قصص الحيوان؟ أم أنه يجرّب حظه في بناء إرث جديد لقصص الحيوان؟ دون مبالغة يمكنني الزعم بأنه يجرّب الوفاء باستحقاق الخيار الثاني، لأن مقارباته لا تحيلنا إلى قصص الأطفال مثلاً –مع تقديرنا البالغ لهذا الضرب من الكتابة القصصية- ولكنها تحيلنا شكلاً ومضمونًا إلى القصص الفلسفي الذي يتخذ من الحيوان ذاتًا وموضوعًا ورمزًا موازيًا لمأساة الوجود البشري. وقد يتساءل متسائل هنا قائلاً: وبماذا افترقت هذه المجموعة إذن عن محكيات كليلة ودمنة وطرزان وماوغلي وحتى عن حي بن يقظان؟ إنه سؤال وجيه دون ريب، والإجابة عنه تتمثل في اعتقادي بأن هذه المحكيات قد صيغت بأسلوب خطابي غنائي احتفالي أولاً، وبأن هذه المحكيات تمور بيقين قاطع لا يحتمل اللّبس إلى درجة السذاجة! لكن محكيات نذير الزعبي صيغت بأسلوب نثري محايد وفردي، وهي مضرَجة بدماء القلق والترقّب والتساؤل والخوف والفجيعة. إنها محكيات تنتمي -ببساطة- إلى حكمة القرن الحادي والعشرين، -حيث الأبيض لم يعد أبيض تمامًا والأسود لم يعد أسود أيضًا، بل إن الرمادي لم يعد مزيجًا من الاثنين فقط- وليس إلى حكمة كليلة ودمنة... حيث كان الأسد ملك الغابة حقًا، وكان الثعلب صعلوكًا بلا منازع.

    د. غسان عبد الخالق

    عميد كلية الآداب والفنون في جامعة فيلادلفيا

    رئيس جمعية النقاد الأردنيين

عناوين التوزيع

HOME